فصل: (مسألة: إصابة السهم أو الكلب صيدا لا يقصد)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: إدخال الكلب نابه في الصيد]

إذا أدخل الكلب نابه أو ظفره في الصيد وجرحه. فهل يحكم بنجاسة ذلك الموضع؟ فيه قولان، حكاهما صاحب "الإبانة":
أحدهما: لا يحكم بنجاسته؛ لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يأمره بغسله، ولو كان نجسا.. لأمر بغسله.
والثاني ـ وهو الأظهر، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يحكم بنجاسته؛ لأنه جزء من الكلب، فينجس ما أصابه مع الرطوبة، كالإناء.
فإذا قلنا بهذا: فما الحكم في ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه:
" أحدها: يعفى عن غسله! لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] فأباح الأكل ولم يأمر بالغسل، فدل على: أنه لا يجب. ولأنه لو وجب غسل موضع العضة لوجب غسل جميع اللحم؛ لأن الناب يلاقي الدم، والدم مائع متفرق في جميع العروق.
والثاني: يجب غسله؛ لأنه موضع نجس بملاقاة الكلب " فأشبه الإناء وأما الآية: فلا حجة فيها؛ لأنه إنما بين الأكل، وأما النجاسة والغسل: فمعلومان من غيرها. وقول الأول: لو وجب غسل موضع العضة، لوجب غسل الجميع.. فغير صحيح؛ لأنه إن عضه بعد الموت.. فلا دم فيه، وإن عضه وهو حي.. فإن الدم يفور ويجري، فلا يرجع إلى عروقه، وعلى أنه لو رجع.. فإنما وجب غسل العضة؛ لأنه لا مشقة في ذلك فوجب، وعليه مشقة في غسل الباقي فسقط.
والوجه الثالث ـ حكاه في "الإبانة" -: أنه يجب قطع موضع العض. وليس بشيء.
فإذا قلنا: يجب الغسل.. فكم يغسل؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو ظاهر نص الشافعي: أنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، كما لو أصاب إناء.
والثاني ـ حكاه في "الفروع" -: يكفي في غسله مرة؛ لأن ما زاد على ذلك يشق.
وإن شئت.. قلت: في المسألة أربعة أوجه:
أحدها: لا يجب الغسل.
والثاني: يجب غسل موضع العض سبع مرات، إحداهن بالتراب.
والثالث: يكفي غسله مرة.
والرابع: لا يجزئه الغسل، بل يجب قطع ذلك الموضع.

.[مسألة: الاصطياد بالجارحة المغصوبة]

وإن غصب جارحة واصطاد بها صيدا.. كان الصيد ملكا للغاصب؛ لأن الصيد مضاف إلى الصائد دون مالك الجارحة. فإن كان الجارحة غير الكلب.. وجب لمالكه أجرة مثله على الغاصب.
وإن كان كلبا.. قال الشيخ أبو حامد: لم تجب أجرته قولا واحدا؛ لأن منفعته مباحة له غير مملوكة، فلذلك لم يضمن، بخلاف غيره من البهائم؛ لأن منفعته مملوكة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يجوز إجارته.. وجبت على الغاصب الأجرة، وإن قلنا: لا يجوز إجارته.. لم تجب.

.[مسألة: القصد لا يعتبر في ملك الصيد بشبكة وغيرها]

القصد غير معتبر في ملك الصيد، فلو أخذ صيدا لينظر إليه.. ملكه بذلك. وإن نصب شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه بذلك. وإن كان له حوض على شط نهر فدخله حوت، فإن كان الحوض صغيرا بحيث لا يمكنه العود إلى النهر.. ملكه بذلك، وإن كان كبيرا لا يقدر على أخذه إلا بتعب.. لم يملكه بذلك؛ لأنه غير مقدور عليه.

.[مسألة: صيد الحمام الأهلي والمباح]

إذا كان له حمام في برج فتحول منه إلى برج غيره.. لم يملكه الثاني، وكان ملك الأول باقيا عليه؛ لأنه بتحوله عن برج الأول لا يزول ملكه عنه بذلك. وإن كان الحمام مباحا فدخل إلى برج الأول.. لم يملكه بنفس الدخول، ولو أخذه غيره منه أو تحول إلى برج غيره.. لم يكن للأول أن يطالب برده؛ لأنه لا يملكه. فإن أغلق عليه صاحب البرج برجه، أو دخل من كوة إلى بيته فسدها عليه.. نظرت: فإن كان يمكنه أخذه بغير تعب ولا علاج.. ملكه بذلك، فلو انفلت وأخذه غيره.. كان له أخذه منه، وإن كان لا يمكنه أخذه إلا بتعب وعلاج.. لم يملكه بذلك، فإن انفلت وأخذه غيره.. لم يكن للأول مطالبته برده. وإن دخل قفصا له، فغلق عليه بابه.. ملكه بذلك.
فإن توحل في أرضه ظبي أو عشش فيها طائر.. لم يملكه بذلك.
وحكى الطبري في (العدة) وجها آخر: أنه يملكه بذلك.

.[فرع: الصيد المعلم بعلامة]

وإن أصاب ضبا مقرطا أو موسما أو به أثر ملك لآدمي.. لم يجز له اصطياده فإن أخذه.. لم يملكه بذلك؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بظبي حاقف فهم أصحابه به فقال: دعوه حتى يجيء صاحبه». ولأنه إذا وجد عليه أثر الملك.. فالظاهر أنه لمالكه، فلا يزول ملكه عنه بالانفلات. فإن قيل: يجوز أن يكون قد اصطاده محرم فلم يملكه بذلك.. قلنا: هذا محتمل إلا أن الظاهر خلافه.
وهكذا لو وجد طائرا فيه علامة المالك كقص الجناح، أو وجد ما ليس له أصل في الوحش، كالدجاج أو فراخه إذا وجده متوحشا.. لم يجز له أن يملكه؛ لأن الظاهر أنه لمالك.

.[مسألة: الصيد بالرمي وأنواعه]

ويجوز الصيد بالرمي لما «روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله إنا نكون في أرض صيد، فيصيب أحدنا بقوسه، ويبعث كلبه المعلم: فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته؟ فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ما ردت عليك قوسك فكل، وما أمسك عليك كلبك المعلم فكل».
فإن رمى الصيد فقتله، فإن كان بما له حد فقتله بحده، كالسهم الذي له نصل أو السكين أو السيف أو السنان أو المروة أو الخشبة الحادة: حل أكله لحديث أبي ثعلبة. وإن أصابه بما لا حد له فقتله كالبندقية أو الدبوس أو الحجر الذي لا حد له.. فإنه لا يحل أكله سواء جرحه بذلك أو لم يجرحه، حتى لو رمى طائرا ببندقية فقطعت حلقومه ومريئه: لم يحل بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] وهي المضروبة بالحجارة أو بالعصا حتى تموت. ولما «روى عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المعراض، فقال: «إن قتل بحده: فكل، وإن قتل بعرضه - وروي: بثقله - فلا تأكل فإنه وقيذ».
قال الهروي: (والمعراض): سهم بلا ريش ولا نصل ويصيب بعرض عوده دون حده.
فعلى هذا: إذا رماه بما لا حد له، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه حل أكله، وإن أدركه وقد مات أو فيه حياة غير مستقرة لم يحل أكله لما ذكرناه.

.[فرع: إرسال السهم في الريح وحالات أخرى]

إذا أرسل سهمه في ريح عاصفة نحو الصيد، فأطارت الريح السهم فوقع في الصيد فقتله، ولولا الريح ما وصل إليه السهم: حل أكله؛ لأن الإرسال له حكم ولا يتغير حكمه بالريح؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.
وإن وقع السهم على الأرض ثم وثب السهم من الأرض فوقع في الصيد فقتله: فهل يحل؟ فيها وجهان، بناء على القولين فيمن ازدلف سهمه في الأرض ثم أصاب في المناضلة وإن نزع السهم ليرمي فانفلت قبل أن يرسله فقتل صيدا ففيه وجهان حكاهما في (العدة).

.[فرع: رمي الطائر وجرحه]

وإن رمى طائرا فجرحه ثم وقع على الأرض فوجده ميتا: حل أكله سواء مات في الهواء أو بعدما وقع على الأرض أو لم يعلم كيف مات، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا مات بعدما وقع على الأرض.. لم يحل أكله).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ردت عليك قوسك فكل» ولم يفرق؛ ولأنه صيد سقط عن الإصابة على موضع لا يمكن الاحتراز من سقوطه عليه، فحل، كما لو رمى حمار وحش فوقع على جنبه ومات.
وإن وقع هذا الطائر على ماء أو جبل أو شجر فتردى، ثم مات.. نظرت: فإن لم تكن الجراحة موجبة لم يحل أكله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3]، وما وقع في الماء فالماء يخنقه وما وقع على جبل أو شجرة فهو من المتردية وروى عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رميت بسهمك فذكرت اسم الله فقتل: فكل، وإن وقع في ماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك».
وإن كانت الجراحة قاتلة موجبة، مثل: أن وقع السلاح في حلقه فذبحه أو في لبته فنحره أو في كبده فأبان حشوته فإنه يحل أكله؛ لأنه قد صار كالمذكى فلا يؤثر فيه وقوعه في الماء أو ترديه من الجبل أو الشجرة كما لو ذبح شاة ثم وقعت في ماء أو تردت من جبل أو شجرة.

.[فرع: قطع الصيد قسمين أو إبانة بعضه قبل قتله]

فإن ضرب صيدا فقطعه باثنين فمات: حل أكله جميعا سواء كان قطعه نصفين، أو كان الذي معه الرأس أقل أو أكثر.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الذي معه الرأس أكثر.. حل ما معه الرأس دون الثاني).
دليلنا: أن كل عقر كان ذكاة لبعضه.. كان ذكاة لجميعه، كما لو كان مع الرأس أكثر أو أقل.
وإن رماه فأبان بعضه وبقي الباقي على الامتناع، ثم رماه فقتله، أو أدركه فذكاه.. حل أكله جميعا إلا ما أبان منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميت».

.[مسألة: إدراك الصيد وفيه حياة مستقرة]

إذا أرسل سهمه أو جارحته على صيد فعقره، ثم أدركه وفيه حياة مستقرة.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كان العقر قد صيره في حكم المذبوح، مثل: أن أبان حشوته أو قطع الحلقوم والمريء أو في مقتل كالقلب، وكانت الحياة فيه غير مستقرة فإن أمر السكين على حلقه ليذبحه.. فهو المستحب وإن تركه حتى مات.. حل أكله؛ لأن ذلك العقر ذكاة له فحل أكله، كما لو ذبح دجاجة، فجعلت تنزو.
الثانية: إذا كان العقر لم يصيره في حكم المذبوح، بل وجد وفيه حياة مستقرة مما
يعيش اليوم ونصف اليوم والزمان متسع لذكاته، فإن ذكاه.. حل أكله وإن ترك ذكاته عامدا أو لم تكن معه آلة يذبح بها حتى مات لم يحل أكله لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، فلم يحل كما لو تردت شاة من جبل فترك ذكاتها حتى ماتت.
الثالثة: إذا أدركه وفيه حياة مستقرة، لكنه مات قبل أن يتسع الزمان لذكاته، أو أدركه ممتنعا فجعل يعدو خلفه فلحقه وقد بقي من حياته زمان لا يتسع لذبحه حل أكله وإن لم يذبحه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل).
دليلنا: أنه لم يقدر على ذكاته بوجه لا ينسب فيه إلى التفريط فكان عقره ذكاة له كما لو لم يدركه حيا.

.[فرع: غياب الصيد بعد إرسال الكلب أو السهم]

إذا أرسل كلبا على صيد فغاب عنه الصيد والكلب معا قبل أن يعقره الكلب ثم وجد الصيد قتيلا، قال الشيخ أبو حامد: لم يحل أكله سواء وجد الكلب عليه، أو لم يجده عليه؛ لأنه لا يعلم كيف هلك والأصل التحريم.
وإن عقره الكلب أو السهم عقرا صيره في حكم المذبوح قبل أن يغيب عنه ثم غاب عنه فوجده ميتا حل أكله لأنه غاب بعد أن صار مذكى وإن عقره قبل أن يغيب عنه عقرا يجوز أن يموت منه، ويجوز أن لا يموت منه ثم غاب عنه فوجده ميتا.. فنص الشافعي في موضع (أنه يجوز) وقال في (الأم) [2/192].
(القياس: أنه لا يحل أكله إلا أن يكون ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر، فيسقط كل ما خالفه)، واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـأحدهما منهم من قال: يحل قولا واحدا؛ لأن الخبر قد ورد وصح في إباحته، وقد رجع الشافعي عن القياس إلى الخبر.
و(الثاني): منهم من قال: فيه قولان.
وقال أبو حنيفة: (إن أتبعه عقيب الرمي فوجده ميتا.. حل أكله، وإن أخر اتباعه.. لم يحل أكله).
وقال مالك: (إن وجده في يومه.. حل أكله، وإن وجده بعد يومه.. لم يحل أكله).
فإذا قلنا: يحل.. فوجهه: ما روى أبو ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميت الصيد، فأدركته ميتا بعد ذلك وفيه سهمك.. فكله ما لم ينتن». «وروى عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا نرمي الصيد، فنقتفي أثره اليوم واليومين والثلاث، ثم نجده ميتا فيه سهمه، أنأكله؟ قال: «نعم ما لم ينتن». ولأنه إذا غاب بعد أن عقره، ثم مضت مدة لا يندمل في مثلها، فوجده ميتا.. فالظاهر: أنه مات من الجرح، فحل أكله.
وإذا قلنا: لا يحل أكله - قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عندي ـ فوجهه: ما روى سعيد بن جبير «عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد، فنقتفي أثره اليومين والثلاث، فنجده ميتا وفيه سهمه، أيؤكل؟ فقال: «إذا وجدت فيه أثر سهمك ولم يكن فيه أثر من سبع، وعلمت أن أثر سهمك قتله.. فكل» فأباحه له بشرط أن يعلم أن سهمه قتله، وهذا لا يعلمه إذا
غاب عنه. وروي: أن رجلا سأل ابن عباس: إني أرمي الصيد: فمنه ما أصمي، ومنه ما أنمي؟ فقال: (كل ما أصميت - يعني: ما قتلته وأنت تراه - ودع ما أنميت) يعني: ما قتلته وأنت لا تراه.

.[مسألة: صيد الفخ ونحوه]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يؤكل ما قتلته الأحبولة كان فيها سلاح أو لم يكن).
وجملة ذلك: أن الأحبولة ما تنصب للصيد، فيتعلق به من حبل أو شبكة أو شرك. يقال: أحبولة وحبالة، وجمع حبالة: حبائل، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النساء حبائل الشيطان» يعني: مصائده، فإذا وقع في الأحبولة صيد فمات.. لم يحل أكله، لأنه لم يذكه أحد، وإنما قتل الصيد نفسه، ولم يوجد من الصائد غير سبب، فهو كمن لو نصب سكينا، فربضت عليها شاة فقطعت حلقها.

.[مسألة: إصابة السهم أو الكلب صيدا لا يقصد]

وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله،.. حل أكله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما ردت عليك قوسك.. فكل».
وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله، فإن كان في سمته وسننه حل أكله، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يحل).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. ولأنه لا يمكن تعليمه أخذ صيد بعينه، فسقط اعتباره، كما سقط اعتبار إصابة موضع الذكاة وكما لو أرسله على صيود كبار، فتفرقت عن صيود صغار، فأخذ منها واحدا وقتلها.. فإنه قد سلم أنه يحل.
وإن قتل صيدا في غير السمت الذي أرسله فيه.. فهل يحل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحل، لأن للكلب اختيارا، فإذا عدل عن سمت الجهة التي أرسله إليها.. فكأنه قد قطع الإرسال وقصد العدول لنفسه، فلم يحل أكل ما قتله.
والثاني: يحل أكله، لأن قصد الكلب أن يصطاد ما هو أهون عليه، فحل كما لو أصابه في الجهة التي أرسله إليها.

.[مسألة: إرساله الكلب أو رميه السهم وهو لا يرى صيدا]

وإن أرسل كلبه وهو لا يرى صيدا فأصاب صيدا وقتله.. لم يحل أكله، وجها واحدا، لأنه لم يرسله على صيد، فهو كما لو استرسل بنفسه وقتل صيدا.
وإن رمى إلى الغرض أو إلى السماء وهو لا يرى صيدا، فصادف سهمه في طريقه صيدا فقتله فوجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: يحل، لأن الاعتبار في آلة السلاح أن يقصد به الفعل دون المفعول به، ألا ترى أنه لو قصد قطع خشبة فكانت حلق شاة.. حلت.
والثاني: لا يحل، وهو الصحيح، لأنه لم يقصد برميه شيئا، فأشبه إذا نصب أحبولة وفيها حديدة، فوقع فيها صيد، فقتلته تلك الحديدة.

.[مسألة: الرمي أو الإرسال لشاخص وظهوره صيدا أو غنما]

وإن قصد شاخصا يظنه حجرا أو آدميا وكان صيدا فقتله، فمات بالرمي.. حل وجها واحدا. وإن كان بالكلب: فوجهان.
قال الطبري: فإن قصد صيدا، فكان غنما فقتله، فإن كان بالكلب لم يحل وجها واحدا وإن كان بالرمي.. فوجهان.
وأراد: إذا أصاب الشاة في محل الذكاة فأما في غيره.. فلا يحل وجها واحدا.

.[مسألة: ذكاة البعير الناد ونحوه]

وإن توحش أهلي، كالبعير إذا ند أو تردى في بئر ولم يقدر على ذكاته في الحلق واللبة.. فذكاته حيث أصاب منه، كالوحشي، وبه قال علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء وطاووس والشعبي، وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال سعيد بن المسيب وربيعة ومالك: (لا تجوز ذكاته إلا في الحلق واللبة).
دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن بعيرا ند، فرماه رجل بسهم فحبسه الله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما ند منها.. فاصنعوا به هكذا». يعني بقوله: «أوابد " يعني: توحشا ونفورا من الإنس.
وروي: «أن بعيرا تردى في بئر، فقيل: يا رسول الله أما تصلح الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: «إنك لو طعنت في فخذها... لأجزأك». ولأنه غير مقدور على ذكاته، فكان عقره ذكاته، كالوحشي الممتنع. وإن تأنس الوحشي.. فذكاته في الحلق واللبة، اعتبارا بحاله عند الذكاة.

.[فرع: ذكاة الجنين]

وإن ذكى ما يؤكل لحمه، فوجد في جوفه جنينا ميتا.. حل أكله.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل له).
دليلنا: ما «روى أبو سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: «كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه» ولأن الجنين لا يمكن ذكاته فجعلت ذكاة أمه ذكاة له.
وإن خرج الجنين حيا وتمكن من ذبحه.. لم يحل أكله من غير ذبح. وإن مات من قبل أن يتمكن من ذبحه.. حل أكله.

.[مسألة: ملك الصيد بزوال الامتناع]

وإن رمى رجل صيدا فأصابه ولم يزله من الامتناع.. لم يملكه بذلك، وكان لمن اصطاده. وإن أزال امتناعه.. ملكه بذلك، كما لو أخذه بيده.
وإن رماه اثنان فأصاباه معا فأثبتاه أو قتلاه.. كان بينهما نصفين. قال الشافعي: (سواء كان الجرحان سواء، أو أحدهما أكبر من الآخر)؛ لأن امتناعه أو موته كان بفعلهما، فاشتركا في ملكه.
وإن رماه واحد بعد واحد وزال امتناعه... فهو لمن أثبته منهما.
وإن رمياه فوجداه ميتا فاختلفا، فقال كل واحد منهما: أنا أثبته أولا، وأنت رميته بعدي فقتلته، فعليك ضمان قيمته.. فإنه لا يحل أكله، لأنهما قد اتفقا على أنه قتل بعد إثباته، وكل واحد منهما يدعي على صاحبه القيمة.. فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه: أنه ما يعلم أن صاحبه أثبته أولا. فإن حلفا جميعا.. برئا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. رددنا اليمين على الحالف، ثم يحلف: لقد قتله الناكل بعد رميه، فيجب له عليه قيمته مجروحا.
وإن اتفقا أن أحدهما أصابه أولا، فقال الأول: أنا أثبته، ثم قتلته أنت. وقال الثاني: لم تثبته برميك، وإنما بقي ممتنعا، ثم أثبته أنا وقتلته.. فالقول قول الثاني مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه على الامتناع.
قال ابن الصباغ: وينبغي إذا اتفقا على عين جراحة الأول أن يفصل، فيقال: إن كان يعلم أنه لا يبقى معها امتناع، كأنها كسرت رجل ما يمتنع بالعدو أو جناح ما يمتنع بالطيران.. فالقول قول الأول بلا يمين. وإن كانت مما يجوز أن يمتنع معها.. فالقول قول الثاني.

.[فرع: امتناع الصيد بالرجل والجناح معا]

وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح، كالقبج والدراج فأصابه الأول فكسر رجله، وأصابه الثاني فكسر جناحه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه بينهما، لأن امتناعه كان بفعلهما.
والثاني ـ وهو الأصح ـ: أنه للثاني، لأنه كان ممتنعا بعد إصابة الأول، وإنما زال امتناعه بإصابة الثاني، فكان له.

.[مسألة: رمي الصيد من اثنين فوجداه ميتا ولم يعلم امتناعه بالأول]

وإن رماه الأول ورماه الثاني ووجد ميتا ولم يعلم أن الأول بلغ به أن يكون ممتنعا أو غير ممتنع.. فقال الشافعي في " المختصر ": (جعلناه بينهما نصفين). وقال في "الأم": (حل أكله وكان بينهما). فاعترض معترض على قول الشافعي فيها، وقال: قول الشافعي بحل أكله: لا يجوز؛ لأنه يجوز أن يكون الأول قد أثبته، وأن الثاني قتله، فلا يحل أكله، ويجوز أن لا يكون الأول أثبته، ثم قتله الثاني، فيحل. ومتى اجتمع ما يوجب التحريم والإباحة.. غلب التحريم. وأما قوله: (يكون بينهما): فلا يجوز أيضا؛ لأنه إن كان الأول أثبته.. فهو له، وإن كان الثاني أثبته.. فهو له، فكيف يكون بينهما؟ واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك على ثلاثة أوجه:
فـأحدها منهم من ترك ظاهر كلام الشافعي وأجاب: إلى أن الأمر كما قال هذا السائل، وتأول كلام الشافعي وقال: أما قوله: (إنه يحل أكله) فأراد: إذا عقره
أحدهما فأثبته، ثم أصابه الثاني في محل الذكاة، فقطع الحلقوم والمريء، أو أثبتاه ولم يصيراه في حكم الممتنع، ثم أدركه أحدهما فذكاه.. فيحل أكله. وأما قول الشافعي: (يكون بينهما) فأراد: إذا كانت يدهما عليه، فلا يعلم من يستحقه منهما، فيقسم بينهما. فأما إذا وجداه ميتا من الجراحتين.. فلا يحل أكله، فإن اتفقا على أن الثاني الذي قتله.. كان عليه القيمة. وإن اختلفا فيه.. حلف كل واحد منهما لصاحبه، كالمسألة التي تقدمت.
والثاني: من أصحابنا من قال: المسألة مفروضة في صيد يمتنع برجله وجناحه كالقبج، فأصاب أحدهما رجله وكسرها، وأصاب الآخر جناحه وكسره ومات.. فقد ذكرنا فيها وجهين. فإن قلنا: إنه بينهما.. فالمسألة مفروضة فيه، وإن قلنا: إنه للثاني.. فلا يعلم الثاني منهما ويدهما عليه، فكان بينهما. وهذا القائل ترك ظاهر كلام الشافعي.
و(الثالث): قال أبو إسحاق: المسألة على ظاهرها، فيحل أكله؛ لأن الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، ويكون بينهما؛ لأن يدهما عليه، فإن قيل فقد قلتم: الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، فكيف لم تزل بذلك يد الأول؟ قلنا: هذا لا يزال به حكم اليد، ولهذا لو كان عنده شيء يدعيه.. حكم له بذلك وإن كان الأصل عدم الملك، فدل على: أن اليد أقوى من حكم الأصل.